اجتماعات الربيع- ديون الدول النامية، هيمنة مالية وكوارث إنسانية.

المؤلف: شريف عثمان09.05.2025
اجتماعات الربيع- ديون الدول النامية، هيمنة مالية وكوارث إنسانية.

تستعد العاصمة الأمريكية واشنطن لاستضافة اجتماعات الربيع السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في عام 2025، وهو حدث بارز يجمع نخبة من وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية من مختلف أرجاء المعمورة، وذلك بهدف التباحث بشأن أبرز القضايا الاقتصادية التي تؤثر على العالم أجمع.

وفي خضم هذه اللقاءات، التي تشكل سانحة ثمينة لتبادل وجهات النظر حول التحديات الاقتصادية الراهنة، بما في ذلك الاضطرابات المتفاقمة في العديد من الاقتصادات الكبرى نتيجة للسياسات الحمائية التي تبناها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي أدت إلى نشوب حرب تجارية مع عدد من الحلفاء والخصوم على حد سواء، فإنه من المستبعد أن يتم التطرق بشكل معمق إلى القضية الأكثر حساسية وإلحاحًا، ألا وهي مسألة إلغاء ديون الدول النامية أو إعادة هيكلتها بشكل جذري.

وعلى مر السنوات، تكرر المشهد المألوف خلال الاجتماعات السابقة، حيث تتوافد حشود من الوزراء ورجال الأعمال والمال بأبهة وفخامة، ينزلون من سياراتهم الفارهة أمام بوابات مباني مجموعة البنك الدولي الشاهقة في قلب العاصمة الأمريكية، يرتدون حللهم الأنيقة الداكنة، وتعطر الأجواء روائح عطورهم الفاخرة، بينما يرقبهم عن كثب جمع من المشردين والمتسولين الذين اتخذوا من حديقة صغيرة ملاذًا لهم، لا تفصلهم عن مباني البنك الدولي سوى أمتار قليلة، وقد اعتاد هؤلاء على نصب خيامهم المتواضعة أمام هذه المؤسسة المالية العريقة بالتزامن مع انعقاد الاجتماعات، وذلك في محاولة يائسة لتذكير القائمين عليها بالظروف المعيشية القاسية التي يكابدونها وملايين آخرين من أبناء الدول النامية، تلك الدول التي تزعم المؤسسة المالية سعيها الدؤوب لتقديم الدعم والعون لها، بغية مساعدتها على تحسين أوضاع مواطنيها وانتشالهم من براثن الفقر والمعاناة.

ويقدم الخبير الاقتصادي الأمريكي البارز ديفيد غرايبر، الأستاذ السابق في جامعة ييل المرموقة وكلية لندن للاقتصاد الشهيرة، نقدًا لاذعًا وجذريًا للطريقة التي تتعامل بها المؤسسات المالية العالمية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، مع الدول النامية، حيث يرى أن القروض التي تقدمها هذه المؤسسات لم تكن في تاريخها الطويل مجرد أداة اقتصادية بحتة، بل كانت في كثير من الأحيان بمثابة عصا سياسية تستخدم للهيمنة وإخضاع الشعوب، وهو ما تجسد بشكل صارخ وواضح في سياسات صندوق النقد الدولي خلال العقود الأخيرة، ولا سيما من خلال ما يسمى ببرامج التكيف الهيكلي المثيرة للجدل.

وفي كتابه القيم عن الدَّين "Debt: The First 5000 Years"، يوضح غرايبر بجلاء كيف أن الشروط المجحفة التي يفرضها صندوق النقد على الدول المقترضة تؤدي في نهاية المطاف إلى تدمير النسيج الاجتماعي لتلك الدول، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بخفض الإنفاق العام على القطاعات الحيوية والضرورية مثل الصحة والتعليم، وهي القطاعات التي تمس حياة المواطنين بشكل مباشر.

ورغم أن هذه السياسات يتم الترويج لها على أنها خطوات ضرورية وحتمية للإصلاح المالي وتحقيق الاستقرار الاقتصادي المنشود، فقد أثبت الواقع المرير أنها كانت، في كثير من الأحيان، السبب المباشر والفاعل في وقوع كوارث إنسانية مروعة لا تُمحى آثارها بسهولة.

ومن بين الأمثلة المؤلمة التي أوردها غرايبر في كتابه، أشار إلى حالة زامبيا التي اضطرت في أواخر التسعينيات إلى خفض ميزانيتها المخصصة للرعاية الصحية بنسبة هائلة بلغت 50%، وذلك امتثالًا لشروط صندوق النقد القاسية.

وقد أدى هذا الإجراء التقشفي إلى نقص حاد ومزمن في الأدوية والأطباء، وتراجع ملحوظ في أعداد حملات التلقيح الضرورية، وهو ما تسبب بدوره في وفاة ما يقرب من 30 ألف طفل سنويًا لأسباب كان يمكن الوقاية منها بكل سهولة ويسر.

وفي تلك الفترة العصيبة، كانت زامبيا تنفق أكثر من 40% من دخلها القومي الشحيح على خدمة الدين الخارجي المتراكم، بينما كانت المستشفيات الحكومية تفتقر إلى أبسط أدوات التشخيص والعلاج اللازمة، وكان المرضى يُطلب منهم شراء الشاش والمضادات الحيوية من السوق السوداء بأسعار باهظة إذا أرادوا الحصول على العلاج المنقذ.

أما في تنزانيا، فقد أدت سياسات خفض الإنفاق الحكومي التي فُرضت في إطار برنامج التكيف الهيكلي المشؤوم إلى تخفيض ميزانية التعليم بنسبة مذهلة بلغت 40% خلال عقد واحد فقط، وهو ما تسبب في إغلاق مئات المدارس الحكومية، وتراجع نسبة الالتحاق بالتعليم الأساسي إلى أقل من 50% بحلول منتصف التسعينيات.

وتراجعت قدرة الأسر الفقيرة والمعدمة على إرسال أبنائها إلى المدارس بعد فرض رسوم دراسية ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها العذاب والمعاناة، خاصة بالنسبة للفتيات. وقدّر البنك الدولي نفسه أن هذه السياسات التقشفية تسببت في حرمان أكثر من 10 ملايين طفل أفريقي من فرصة التعليم الثمينة بين عامي 1985 و2000.

وفي بيرو، وهي إحدى الدول التي خضعت لإصلاحات قاسية وصارمة تحت إشراف صندوق النقد الدولي، أُجبرت الحكومة في بداية التسعينيات على تقليص ميزانية الصحة بنسبة 25%، مما تسبب في كارثة صحية وإنسانية واسعة النطاق، خاصة في المناطق الريفية والنائية، إذ تم إغلاق أكثر من 1.000 وحدة رعاية صحية أولية في أنحاء البلاد، وانخفضت نسبة التلقيح ضد الحصبة من 80% إلى أقل من 50%، الأمر الذي أدّى لتفشي المرض مجددًا على نطاق واسع وموت الآلاف من الأطفال الأبرياء.

ويربط غرايبر في كتابه، كما في العديد من مقالاته ومحاضراته القيمة، بين هذه الكوارث المأساوية وبين طبيعة النظام المالي العالمي الجائر، الذي لا يعامل الدول النامية كشركاء متساوين، بل كمذنبين يجب تأديبهم ومعاقبتهم.

ويشير غرايبر بوضوح إلى أن هذه السياسات التقشفية صُمّمت بالأساس لحماية مصالح البنوك والدائنين الكبار في دول الشمال الغنية، على حد تعبيره، خصوصًا الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث تم توجيه الأموال التي أُقرضت لدول الجنوب الفقيرة في أغلب الأحيان إلى إعادة جدولة ديون سابقة، وسداد الفوائد المتراكمة عليها، دون أن يستفيد المواطن العادي من دولاراتها شيئًا.

ولا يكتفي غرايبر بالتحليل الاقتصادي الدقيق، بل يربط هذه الظواهر المؤسفة بتاريخ طويل وممتد من استخدام الدَّين كوسيلة للسيطرة والهيمنة، ففي العصور القديمة، كما يذكر، كانت فترات تراكم الديون الكبيرة تنتهي غالبًا بإعلان ملوك تلك العصور "عفوًا عن الديون" لحماية المجتمع من الانهيار والتفكك. أما في النظام النيوليبرالي الحديث، فإن العكس تمامًا هو ما يحدث، إذ يتم التضحية بالشعوب من أجل إنقاذ الدين والحفاظ عليه.

والمفارقة الصارخة التي يشير إليها غرايبر هي أن الدول الغنية التي تفرض هذه السياسات القاسية على الدول الفقيرة، مثل الولايات المتحدة، لم تكن لتنشأ وتزدهر أساسًا لولا إلغاء ديونها الخاصة في مراحل مبكرة من تاريخها، أو من خلال إعادة جدولة ميسّرة تم تقديمها لها في فترات لاحقة.

وفي المقابل، تُفرض على الدول النامية شروط مجحفة لا تطاق، تجبرها على بيع أصولها العامة بثمن بخس، وتفكيك شبكات الحماية الاجتماعية الهشة، وفتح أسواقها بشكل غير متكافئ أمام الشركات الأجنبية العملاقة.

لقد فقدت القروض المقدمة من المؤسسات الدولية وبعض الدول المانحة، في صيغتها المعاصرة، أيَّ معنى أخلاقي وإنساني، وتحوّلت إلى وسيلة فعالة لإعادة إنتاج الفقر والتبعية، الأمر الذي يفرض علينا إعادة التفكير مليًا في الأسس التي يقوم عليها النظام المالي العالمي برمته، حيث أثبتت الخبرات العالمية الأخيرة أن تحرير الشعوب المضطهدة لا يمكن أن يتم بحال من الأحوال دون التحرر من قبضة الدائنين المتسلطين، ومن منطق السوق الجشع الذي يقيس كل شيء بالربح والخسارة المادية، حتى الأرواح البشرية الثمينة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة